قال فلاديمير لينين ذات يوم: “هناك عقود لا يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع تحدث فيها عقود من الزمن” ويبدو أن ذلك هو الحال في روسيا اليوم، فمع فشل غزو فلاديمير بوتين المتعثر لأوكرانيا، شهد شهر سبتمبر عبور خط الاعودة لأكثر من مرة، بدءا من الهزيمة المذهلة للقوات الروسية في إقليم خاركيف الأوكراني ومرورا بإعلان بوتين أولا عن التعبئة العسكرية ثم ضم الأجزاء التي تحتلها روسيا من أوكرانيا.

ولكن لم يسر إعلان التعبئة وفقا للخطة كما هو الحال مع كل جانب آخر من جوانب حرب بوتين، وفي حين فر عشرات الآلاف من الرجال المؤهلين للتجنيد خارج البلاد، اندلعت احتجاجات حاشدة في بعض المناطق ضد التجنيد، على الرغم من التداعيات الخطيرة التي هددت بها الحكومة الروسية، وكان مركز تلك الاحتجاجات هو شمال القوقاز أو الجانب الجنوبي للإمبراطورية الروسية.

وبعد فترة وجيزة من إعلان بوتين التعبئة في 21 سبتمبر، بدأت تظهر مقاطع فيديو تظهر رجالا ساخطين وهم محاصرين من قبل ضباط التجنيد. وكما هو الحال مع معظم القوى العاملة الروسية في أوكرانيا، فقد جاء هؤلاء المجندون الجدد بشكل كبير من المناطق النائية في البلاد مثل الشرق الأقصى وجمهوريات الأقليات العرقية في القوقاز وعلى طول الحدود المنغولية.

وشكلت تلك المناطق العمود الفقري لـ “تعبئة الظل” الروسية على مدى الأشهر الستة الماضية من الحرب، وكان العسكريون الروس والمتعاقدون الخاصون مثل مجموعة فاغنر قد قاموا بمسح تلك المناطق بشكل مكثف، وعرضوا رواتب عالية مقابل التعاقد، مع ارتفاع عدد القتلى في الحرب. ومنذ التعبئة الرسمية، تضاعفت تلك الجهود لتصل لمستويات كبيرة، ويشهد على ذلك مقاطع فيديو لشاحنات التجنيد وهي تسير عبر ديربنت وهي  ثالث مدن داغستان، وتدعو جميع الرجال الأصحاء إلى الحضور فورا إلى مكتب التجنيد.

ولم يستقر شمال القوقاز، ففي غضون أيام من أمر التعبئة، اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء داغستان، داعية السكان المحليين إلى مقاومة الحملة، وأظهرت مقاطع فيديو نساء يصرخن في وجه ضباط التجنيد للإفراج عن أزواجهن وأبنائهن، وذهبت بعض النساء إلى حد القول إن هذه “حرب بوتين، وليست حربنا” و”أننا [روسيا] نهاجم أوكرانيا، وليس العكس” ويعد ذلك عمل علني شجاع بشكل لا يصدق في روسيا وفي عام 2022، وكان هناك أيضاً احتجاجات الأخرى أكثر عنفا، فقد تعين تفريق المتظاهرين الذين أغلقوا الطريق السريع في خاسافيورت وهي ثاني أكبر مدينة في داغستان، بإطلاق النار في الهواء.

ويظهر تاريخ روسيا الحديث مدى خطورة هذه اللحظة على بوتين، حيث بدأ الرئيس الروسي فترة ولايته بغزو الشيشان، وإعادة حكم موسكو إلى المنطقة باستخدام تكتيكات عنيفة تكرر نفسها الآن في أوكرانيا، ثم انخرط بوتين في صراع مع تمرد مترامي الأطراف في جميع أنحاء شمال القوقاز، وهو الصراع الذي شهد شن المتشددين المحليين لهجمات منتظمة في موسكو والتي كان لها تأثير مدمر. استغرق الأمر أكثر من 15 عاما من الجهود المتضافرة والمركزة من قبل أجهزة الأمن الروسية لسحق التمرد في النهاية.

وتهدد حملة التجنيد الحالية بقلب الموازين رأسا على عقب، ففي حين أن داغستان والشيشان ومناطق أخرى من شمال القوقاز ربما تعرضت للقمع العنيف، فإن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي خلقت شعبية للتمرد لم تعالج أبدا، وتعاني جميع الجمهوريات العرقية السبع التي تشكل شمال القوقاز الروسي من كساد اقتصادي حاد، فالتنمية مبعثرة وغير متسقة، والعثور على وظيفة لائقة يكاد يكون مستحيلا، والأموال الفيدرالية التي تدعم المنطقة مستنزفة إلى حد كبير من قبل المسؤولين الفاسدين.

هذا ناهيك عن الجانب الاجتماعي، حيث كان سكان شمال القوقاز هدف للعنصرية العميقة الجذور داخل المجتمع الروسي (وخاصة الحكومة الروسية وأجهزة الأمن)، كما وجدوا أنفسهم معزولين ومغربين إذا انتقلوا إلى موسكو أو كراسنودار أو أي مكان آخر بحثا عن فرص عمل، أضف إلى ذلك الواقع الجديد أن الدولة الذي شكل خطورة كبيرة عليهم، وهنا تجمعت جميع العناصر التي جعلت من التمرد الأصلي فكرة وارده للسكان الساخطين من البداية.

وفي حين أن تلك التحديات تعصف بالمنطقة ككل، لكنها متفاقمة في الشيشان تحديدا، حيث تلقت الجمهورية الصفقة الأكثر فاوستية على الإطلاق، حيث عقد بوتن اتفاق بسيط مع رئيسها الذي نصبه الكرملين، ونص الاتفاق على التالي: خذ أموال الحكومة وحافظ على الهدوء بأي وسيلة ممكنة، و”رمضان قديروف ” الذي حكم الشيشان بموجب ذلك الاتفاق منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، هو رجل قوي لا تعرف قسوته أي حد، وقد عذب وأعدم ليرغم الشعب على الطاعة. ولكن حتى مع ذلك، بدأت نقاط الضعف في الظهور: فقد تظاهرت حوالي 100 امرأة شيشانية في وسط غروزني ضد حملة التعبئة، وهو أول احتجاج مفتوح على مدى فترة ولاية قديروف بأكملها، وسرعان ما ألقي القبض عليهن جميعا (وتم ارغام أزواجهن وأبناؤهن على الخدمة في أوكرانيا)، ولكن قديروف نفسه اضطر أيضا إلى إنكار أن حكومته تقوم بالتعبئة، حتى مع استمرارها بالحملة. وفي الوقت نفسه، أعلنت التشكيلات الشيشانية الموالية لأوكرانيا في أوكرانيا أنها تعتزم نقل المعركة إلى قديروف بعد طرد روسيا من الأراضي الأوكرانية، وإن وضع الشيشان باعتبارها “المنطقة الأكثر آمنا في روسيا”، كما يحب قديروف قوله بكل فخر، لم يعد كما كان.

كل ذلك ينذر بكارثة بطيئة الاحتراق لبوتين، حتى الآخرين بدأوا متيقظين للهجوم، ففي خطاب ألقاه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 30 سبتمبر وهو يقف أمام تمثال لأمير الحرب الداغستاني “الإمام شامل” الذي قاتل روسيا في القرن الـ19 ، حيث دعا في ذلك الخطاب سكان شمال القوقاز إلى المقاومة وعدم “الموت من أجل حرب بوتين الإمبريالية”. وبالكاد يلتقي المرء بفرد في تلك الدولة لا يعتقد أن حربا شيشانية ثالثة (عندما يكون بوتين وقديروف ضعيفين بما فيه الكفاية) على وشك الحدوث خاصة بين الشيشان القوقاز، والقوقاز هو المكان الذي بدأ فيه بوتين وعزز قبضته على الحكم في روسيا، وسيكون المكان المناسب لتقويض كل شيء في النهاية.

 

نيل هاور: محلل أمني مقيم في يريفان، أرمينيا، ويركز عمله، من بين أمور أخرى، على السياسة والأقليات والعنف في القوقاز.

تويتر: @NeilPHauer

 

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: