بعد غزو تركيا لشمال سوريا، تساءل الكثيرون من الأتراك والأمريكيين عن سبب اهتمام الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بزيارة واشنطن في وقت كان فيه المزاج مناهضًا لتركيا. فما الذي يريد الرئيس التركي تحقيقه؟
وكان توقيت الزيارة سيئًا، لأنه تزامن مع بداية جلسات الاستماع العامة داخل مجلس النواب لمحاكمة الرئيس ترامب. ولكن ما لا تخطئه العين أن أردوغان كان قادرًا على العودة إلى بلاده راضيًا، إن لم يكن منتصراً بهدوء. وأصبحت أسباب انتصاره واضحة بعد أيام من عودته إلى تركيا: وعلى الرغم قلة أصدقائه، إن وجد، في واشنطن، فقد نجح رجل تركيا القوي، ببراعة كبيرة وبمساعدة صديقه، دونالد ترامب، في تحقيق الكثير مما أراد.
لقد كان أكراد سوريا حلفاء لأميركا في حربها الوحشية ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش“، وضحوا بقرابة “11,000” رجل وامرأة من أجل هذه الحرب. لكن ترامب تخلى عنهم بمكالمة هاتفية دون استشارة مستشار واحد في حكومته، وأعطى أردوغان الضوء الأخضر لغزو سوريا ومهاجمة الأكراد، مما أدى ليس فقط إلى إضعاف الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش“، بل أيضًا إلى مقتل العديد من الأبرياء المدنيين، وتشريد أكثر من “200,000” من الأكراد وغيرهم. لقد شعر الكونغرس ومن في واشنطن بالصدمة بسبب وحشية الهجوم، واستعانة أنقرة بالجهاديين الذين شاركوا في أعمال النهب والقتل الوحشية.
وفي تحدٍ نادر لرئيسهم، انتقد العديد من أعضاء الكونغرس الجمهوريين قرار ترامب، وصوتوا بأغلبية ساحقة بـ403 صوتًا مقابل 16 لفرض عقوبات على تركيا. وقدم الأعضاء أيضًا مشروعي قانون مماثلين على مجلس الشيوخ، وكلهم أمل حقيقي بأن أحد المشروعين على الأقل سيتم تمريره بأغلبية الأصوات والتي لا يمكن معها استخدام حق الفيتو.
وكانت الأزمة السورية مجرد الأزمة الأحدث في قائمة طويلة من المظالم. وفي مطلع هذا العام، اشترت تركيا، الدولة العضو في منظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو“، النظام الصواريخ المتطور المضاد للطائرات “S-400” من روسيا، رغم الاعتراضات الشديدة من الولايات المتحدة. وكان ثمة مخاوف من أن نظام الدفاع الصاروخي “S-400” من شأنه أن إضعاف برنامج الطائرات المقاتلة الشبح الحديثة طراز F-35 – الدعامة الأساسية لحلف الناتو لعقود قادمة – من خلال السماح للروسيين بجمع معلومات استخبارية قيمة، غير أن أردوغان تجاهل تلك المخاوف.
وقبل أزمة نظام الدفاع الصاروخي الروسي “S-400”، كانت هناك أزمة بنك “خلق” التركي الحكومي والذي أُدين بتهمة غسل الأموال، ومساعدة إيران في الالتفاف على العقوبات. ومثلما أراد الكونجرس في مسألة نظام الدفاع الصاروخي الروسي “S-400”، أرادت وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على تركيا، لكن ترامب وضع حدًا لكليهما.
إذن ماذا أراد أردوغان من زيارته، وما جناه؟
أولاً، أقنع أردوغان ترامب بإضفاء شرعية على غزو تركيا لسوريا. ولم يتجاهل الرئيس الأمريكي انتقاد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والمأساة الإنسانية التي سببها الأتراك في سوريا، بل تبنى الروايات التركية حول الأكراد، بما في ذلك الادعاءات الغريبة بأن “الأكراد في تركيا كانوا سعداء، ويتمتعون بالرعاية الصحية“.
والأهم من ذلك، أن أردوغان نجح في إيقاف التصويتين في مجلس الشيوخ بخصوص فرض عقوبات على تركيا. ودعا ترامب مجموعة محددة من أعضاء مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري للقاء أردوغان في المكتب البيضاوي. وكان من بين المدعوين رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، جيمس ريش، والذي شارك في صياغة مشروع قانون العقوبات المنتظر عرضه على مجلس الشيوخ. وبعد أيام قليلة من الزيارة، أعلن “ريش” أن التوقيت ليس بالمناسب لفرض العقوبات على تركيا، مما أدى إلى وأد مشروع القانون فعليًا.
كما أقر مجلس النواب بأكثرية “405” صوت مقابل “11” رسمياً بمذبحة الأرمن إبان فترة الإمبراطورية العثمانية باعتبارها إبادة جماعية، وهو ما تجنبه الديمقراطيون والجمهوريون بكل جدية في الماضي حتى لا يسيئوا إلى الأتراك. وفجأة، أعلن السيناتور “ليندسي غراهام“، صاحب مشروع قانون عقوبات آخر ضد تركيا، والذي كان من بين المدعوين للقاء أردوغان، أنه سيعرقل تمرير مشروع القانون الخاص بالأرمن.
وبخصوص نظام الدفاع الصاروخي “S-400”، من الواضح أن تركيا تلعب لعبة الانتظار. ولدى عودته إلى أنقرة، صرح إبراهيم قالين، كبير مستشاري أردوغان للسياسة الخارجية، بأن تركيا لن تتخلى عن نظام الدفاع الصاروخي “S-400”، لكنه واثق من إمكانية انسجام نظام الدفاع الصاروخي مع طائرات F-35، وأن يعمل كلاهما بشكل مستقل على الأراضي التركية. ولم يوافق أي خبير دفاع أمريكي على ذلك مطلقًا.
واستطاع أردوغان أيضًا أن يحصل على موافقة علنية من ترامب بخصوص موقف تركيا من اللاجئين السوريين، وعودة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي تم القبض عليهم إلى أوروبا، مما يضع الرئيس الأمريكي في خلاف مع حلفاء أمريكا في أوروبا. وبدأ ترامب مؤتمره الصحفي مع أردوغان بتوجيه الشكر إليه لإطلاقه سراح “سركان جولج“، وهو موظف تركي أمريكي يعمل في وكالة ناسا، وكان محتجزا لدى تركيا بسبب اتهامات هزلية. وبصرف النظر عن حقيقة أنه ما كان ل“جولج” أن يدخل السجن في الأساس، فقد تم إطلاق سراحه في نهاية شهر مايو، لكنه بات ممنوعًا من مغادرة البلاد. وفي الواقع، أيد ترامب بشكل غير مباشر سياسة تركيا الخاصة باحتجاز معارضي النظام الفعليين والمشتبه بهم، بحسب رغبتها. ولم يكن الوفد التركي مصدقًا أن الحظ حالفه أمام الأمريكيين أكثر مما كانوا يأملون.
هل ثمة شيء آخر لم يحصل عليه أردوغان من ترامب؟
يتمثل أسلوب تركيا في التفاوض في الإكثار من المطالب بأكبر قدر ممكن للحصول على أكبر قدر من الفوائد. وأضاف أردوغان إلى قائمة مطالبه، ترحيل فتح الله غولن، رجل الدين الذي يتهمه أردوغان بتدبير الانقلاب الفاشل في يوليو 2016 ضده. ولا يزال غولن في ولاية بنسلفانيا، لكن أردوغان يعرف جيدًا أن أي طلب بخصوص تسليم “غولن” هو من اختصاص المحاكم وليس الرئيس الأمريكي. ومن الواضح أيضًا أن أردوغان لم يقنع ترامب بقطع العلاقات تمامًا مع الأكراد السوريين، أو حث الأمريكيين على تسليم “مظلوم كوباني” [فرهاد عبدي شاهين]، القائد العسكري للأكراد السوريين، إلى أنقرة.
ولا يوجد سبب يدعو أردوغان إلى القلق دون مبرر. وستكون هناك المزيد من المكالمات الهاتفية والزيارات.
هنري ج. باركي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ليهاي، والموظف بمجموعة “كوهين“، واحد كبار الباحثين لدراسات الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية. وبالإضافة إلى عدة وظائف أخرى، كان “هنري” عضوًا في فريق تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية، وكان يهتم في المقام الأول بالقضايا المتعلقة بالشرق الأوسط وشرق المتوسط والمخابرات.