أبرزت الضجة التي أحدثها اللقاء المثير للجدل بين وزير الخارجية الإسرائيلي ونظيرته الليبية نجلاء المنقوش –المقالة من مهامها– جانبا من التعقيدات التي يمكن أن ترافق محاولات التطبيع مع إسرائيل في المغرب العربي.
وكان الكشف عن الاجتماع الذي أريد له أصلا ان يبقى سريا قد أثار احتجاجات في ليبيا دفعت رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة إلى النأي بنفسه عن المقابلة بالقول إنها كانت مبادرة فردية من قبل المنقوش.
ولكن محاولة الدبيبة درء الأذى عن نفسه بالقول إنه لم يكن على علم مسبق بالمقابلة بدا بعيدا عن التصديق. فليس لأي وزير خارجية في العالم العربي، مهما كان هامش التحرك الذي يسعى لرسمه لنفسه، أن يلتقي بمسؤول سام إسرائيلي قبل الحصول على ضوء أخضر من أعلى هرم السلطة.
ومما أثار كذلك الشكوك في صدقية نفي الدبيبة علمه مسبقا بالمقابلة هو أن شخصيات سياسية عديدة من شرق ليبيا وغربها قد أجرت، حسب تقارير متواترة، اتصالات سرية مع المسؤولين الإسرائيليين لسنوات عديدة. وقالت بعض المصادر إن ذلك تم بتشجيع من الولايات المتحدة.
أساء الدبيبة التقدير في الواقع، إما باعتقاده آن الإسرائيليين لن يفشوا سر اللقاء أو أنه قادر على احتواء ردود الفعل الغاضبة للرأي العام الليبي إن انكشف أمر المقابلة. وقد يكون أخطأ في الحالتين مما شكل حسب بعض الخبراء “خطأ استراتيجيا” ما كان له أن يسقط فيه.
ويبدو أن ما دفع الدبيبة إلى ذلك هو رغبته المحمومة في تعزيز شرعيته في الخارج بعد الدعوات المتتالية لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا، وهي دعوات جعلته يحاول كسب المساندة الأمريكية والغربية عموما بالتقارب مع إسرائيل. وتزامنت تلك الرغبة مع حاجة الحكومة الإسرائيلية لأخبار جيدة في وقت ادلهمت فيه أفق الساحة السياسية الداخلية إضافة غالى سعي واشنطن لتوسيع رقعة الأطراف المنظمة إلى اتفاقيات أبراهام قبل الانتخابات الأمريكية لسنة 2024.
ونظرا للمعارضة التقليدية الواسعة لجهود التطبيع مع إسرائيل في المنطقة فقد كانت الكثير من الاتصالات مع المسؤولين الإسرائيليين تجري في كنف السرية، رغم أن ذلك كان من شأنه أن يخلق شرخا في العلاقة بين الحكومات العربية والرأي العام في بلدانها.
وتظهر استطلاعات الرأي أن الاعتراض على التطبيع في بلدان المغرب العربي يبلغ نسبا تعد من أعلى النسب في العالم العربي، من بينها ما لا يقل عن 99 في المائة من الرأي العام في الجزائر وموريتانيا و 90 في المائة في تونس. ويبدو الرأي العام في المغرب الأقصى أكثر تقبلا للفكرة وإن كان يعارض التطبيع بنسبة 67 في المائة حسب مقياس الرأي العام العربي الصادر في واشنطن لعام 2022.
وتتضافر المشاعر المعارضة لإقامة علاقات مع إسرائيل مع اعتقاد لدى أغلبية الرأي العام في بلاد المغرب العربي –حسب نفس الاستطلاع– بأن القضية الفلسطينية هي “قضية العرب جميعا وليس فقط الفلسطينيين”. ويشاطر هذا الرأي 89 في المائة من الجزائريين والموريتانيين و 86 في المائة من التونسيين و59 في المائة من المغاربة.
تختلف النتائج في بعض الاستطلاعات الأخرى نوعا ما. ولكنها تبقى متشابهة في معظم الأحيان. ومن الاستثناءات القليلة ما أظهره استطلاع الشباب العربي في نسخته الأخيرة من مساندة للتطبيع لدى 50 في المائة من الشباب المغربي و 31 في المائة من شباب الجزائر و 13 في المائة في تونس.
يعرف الساسة في المغرب العربي بكل تأكيد المخاطر التي قد تنجم عن إهمال الرأي العام في بلدانهم. ويقول مايكل هراري الدبلوماسي الإسرائيلي السابق والباحث حاليا في معهد السياسات الخارجية الإقليمية (ميتفيم) إن “الحادثة الأخيرة في ليبيا تبرز الثمن الذي يتم دفعه نتيجة السعي إلى أي اتفاق وكذلك وزن المسألة الفلسطينية في مسار أخذ القرارات”.
إضافة إلى ذلك فإن العلاقات مع إسرائيل تبقى مرتبطة بتشعبات السياسات الإقليمية في المنطقة المغاربية. وفي الوقت الذي تعتبر فيه الجزائر التطبيع تهديدا لأمنها القومي واصلت المملكة المغربية مسار التطبيع إلى مداه، مستندة في تمشيها ذلك على قوة الشرعية المستمدة من الملك و على الثمار الاستراتيجية التي جنتها من إقامة علاقات مع إسرائيل.
وزاد العلاقات الجزائرية المغربية توترا كون التطبيع بين المغرب وإسرائيل –الذي أعلن عنه رسميا في ديسمبر 2020 — قد انبنى على اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. و قد تعاملت الجزائر مع التقارب المغربي الإسرائيلي وما تبعه من تعاون متعدد الأوجه شمل كل المجالات على أنه حركة عدائية. وفي يوليو الماضي اعترفت إسرائيل بالسيادة المغربية على الأراضي الصحراوية المتنازع عليها وهو قرار اعتبرته السلطات الجزائرية عملا “غير قانوني”.
كما ألقت مسألة التطبيع كذلك بظلالها على العلاقات التونسية الجزائرية بالرغم من معارضة الرئيس التونسي قيس سعيد منذ سنوات عديدة لكل ما يمت بصلة للتطبيع.
وقد راودت الجزائر دوما تخوفات من احتمال التحاق تونس بمسار التطبيع. و أذكى هذه المخاوف كلام جوي هود السفير الأمريكي المعيّن إلى تونس خلال إدلائه بشهادته أمام مجلس الشيوخ في يوليو 2022 عندما أخذ على نفسه وعدا “بمساندة مزيد المجهودات لتطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع دولة إسرائيل في المنطقة”. كلامه أثار تخمينات بأن الولايات المتحدة سوف تعرض على تونس وهي في أوج أزمتها المالية حوافز من أجل الالتحاق باتفاقيات أبراهام.
وعادت الإشاعات لتطفو على السطح مؤخرا عندما صرح عبد القادر بنقرينة، رئيس الحزب الإسلامي “بناء” ، دون تقديم إثباتات على كلامه، أن تونس سوف تعترف بإسرائيل “قريبا وقريبا جدا”. وقد نفت لاحقا تونس والجزائر صحة هذه التخمينات.
لكنه يبدو أنه كلما اشتدت التخمينات والإشاعات ارتفعت موانع جديدة أمام محاولات التطبيع في المنطقة. ومن الأمثلة على ذلك المبادرات الجارية في البرلمانين التونسي والليبي لصياغة مشاريع قوانين جديدة لتجريم التطبيع.
من الواضح اليوم أنه خارج الاستثناء المغربي فإن التطبيع ليس من أولويات بلدان المغرب العربي. ولا ترى معظم حكومات هذه المنطقة أن هناك حوافز يمكن أن تبرر المجازفة بالتطبيع مع إسرائيل. والأمر الوحيد المتأكد هو أن مشاعر التعاطف مع الفلسطينيين تبقى عاملا لا يمكن للقادة أن يتغافلوا عنه.
أسامة رمضاني هو رئيس تحرير ذي أرب ويكلي، وعمل سابقًا في الحكومة التونسية و في مناصب دبلوماسية في واشنطن.